قميص المُحبين

0 8
Avatar for MaherHabieb
3 years ago

                                                   د. مَـاهر عيسى حَبيب

 لعلَّ أكثرَ مَـنْ يبَحَثُ في مَوضوعِ الحُبِّ في الشِّعرِ العربيِّ يُوجَّـهُ انتباهَهُ إلى أحاسيسِ المُحبِّ، وجيشانِ المشاعرِ تجاهَ المَحبوبِ؛ أو إلى جَمَـالِ المَحبوبةِ ووصفِ مَحَـاسِنِها النفسيةِ والجَسَديةِ، أو وصفِ مَـا فَعَـلَـتهُ بِقَـلبِ عَشيقِها؛ وقَـلَّما نَجِدُ مَـنْ تابعَ موضوعَ العلاقةِ بينَ العشقِ والقميصِ؛ حيثُ نرى القميصَ قَـد احتـلَّ مكانةً كبيرةً في شعرِ الغزلِ ! سواء أكان قميصَ العاشقِ أم قميص المحبوبِ، من جهة كونه عاملاً أساسياً في إبرازِ مفاتِنِ لابسِهِ / لابستِهِ، أو مِنْ جِهَـةِ مُرافقتِهِ لَهُ في مُختلفِ المَواقِفِ الحياتيةِ، ومِنْ ضمنِها حالةُ الحُبِّ، فهذا مَجنونُ ليلى لَمْ يَستطعْ أَنْ يَملكَ نَفسَهُ مِنَ البُكاءِ، فَلَمْ يَشعر إلاَّ والدموعُ تنهملُ مُسرعةً إلى جيبِ قميصِهِ، يَقولُ:

                فقلت ولم أملكْ سوابقَ عَبْرَةٍ         سَرِيعٍ إلى جَيْبِ القميصِ انْهِمالُها
                عفا الله عنها ذنْبَها وأَقالَها             وإن كان في الدنيا قليلاً نوالُها

وهذا شاعر آخر يَـقول:

فكم ثم كم من عبرة قد رددتها          سريع على جيب القميص انهلالها

يظلُ القميصُ في مُخيلةِ الشَّاعرِ ليكونَ أولَ ما يتبادرُ إلى ذهنِهِ عندمَا أرادَ تَشبيهَ حَـالتِهِ وقَد استحوذَ الحُبُّ عَـليهِ، وأطبقَ على نفسِهِ، مِنْ مُختَـلفِ الأنحاءِ، بالقميصِ الذي يَضمُ الأزرارَ، حتى كأنَّ الحبَّ ثوبٌ، أو رداءٌ عَظيمٌ بينَ يَدي الليل وهو آخذٌ بِضمِّ أطرافِهِ على الشاعر كما يَضمُّ طرفُ القميصِ الأزرارَ والعُرى؛ فَالبَـنِـيْـقَةُ: طوقُ القميصِ الذي يضمُّ النحرَ أو العُرى، أو الطوق الذي فيه الأزرار؛ يقول مجنون ليلى:

يَضُمُّ عَليَّ الليلُ أطرافَ حُبّـكُم               كما ضَمَّ أطرافَ القَميصِ البنائِقُ

ويُعبِّرُ ابن ميادة عن الفكرة نفسها قائلاً:

يَضُمُّ إليَّ الليلُ أطفالَ حُبِّها                كَما ضَمَّ أردانَ القَميصِ البنائِقُ

ليسَ القميصُ شيئاً خارجياً مفصولاً عن لابسه، بل قد يُشاركه حالاتٍ كثيرة في حياته، فقد يتبللُ قميصُ شَاربِ الخمر بها، وعندئذ يُترك القميص ليشم ريحها وينتشي كما انتشى لابسه، يَقول الشاعر:

        وإذا قميصك بللته مدامة               وعرتك منه وساوس الخناس

            فدع القميص يشم منه ريحها              واغسل فؤادك من أذى الوسواس

وقد يمتلئ القميص عذاباً إذا ما جزع لابسه من العذاب يقول الشاعر:

جزعتَ مِنَ العَذابِ غريبَ تَيمٍ                ومَلأَّتَ القميصَ معَ الإزارِ 

ولست مفارقا قرني حتى             يطول تصعدي بك وانحداري

ثمَّ كأنَّ القميصَ صَـارَ مُشارِكاً المجنونَ في مَواقفِ البُكاءِ، هَا هي الدموعُ وكأنَّها حَبَّـاتُ جُمانٍ تسيلُ على جَانبِ القميصِ:

كأنَّ دموعَ الْعَيْنِ يوْمَ تحمَّلُوا                   جُمَانٌ على جَنْب القميص يسيلُ

ويقول عنترة بن شداد:

زارَ الخيالُ خَيالُ عَبلةَ في الكرى                    لِمُتيَّمٍ نشوانَ مَحلولِ العُرى

ُـمَّ نَـرى القميصَ وقد أصبحَ ساتراً لِما بقيَ مِنْ أجَسادِ الشُّعراءِ بَعدمَا أضناهم العشقُ، يَـقولُ بَهاء الدين زهير:

                  لَمْ يَبقَ مِنِّي في القَميْـ            صِ سِوى رُسوم بَالِيَه

وهاهي الأمراضُ تَـكاثرَت على جسمِ ابنِ المُعتزِّ فأنحلته، وأضنته، ولم تترك عليه غيرَ القميصِ المُزرر؛ يقول مُعتذراً من الجميلات اللواتي اتهمنه بعدم الوفاء:

             وقالَ الغَواني: قد تنكّرتَ بعدَنا،               وهل دامَ ذو عَهدٍ، فلم يتَنكّرِ؟

              تَعاوَدَت الأسقامُ جِسمي فلم تدعْ               لعُوّادِه غَيرَ القَميصِ المُزَرَّر

وذا شاعرٌ آخر يُعبر عن استمرار الذكرى الجميلة إلى ما بعد الزمان، حتى كأنها تصلُ إلى الخلود، فالزمان يَفنى ويبلى وما يزال عطرُ ذكركم يَفوحُ منه، كما يبلى القميص ورائحة الطيبِ ما تزال تنبعثُ منه؛ يقول الشاعر:

              يَفنى الزمانُ، وفيه رونَقُ ذِكرِهم؛             يبلى القَميصُ، وفيهِ عَرفُ المَندَل

وشاعرٌ آخر حاول عبثاً كتمان سرِّه عن النسيم، وخشيَ أن يكون محبوبه قد مالَ إلى غيره، فمن الطبيعي أن يتمايلَ الغصنُ، مثل القميص إذا ما عَتقَ على امرئ يُبدلُ مِراراً، يقول الشاعر:

          وعسَى نَسيمٌ بِتُّ أكتُمُ سرّنَا            عنهُ فَراحَ يَقُولُ عني قد سَلا

         ولقد خَشيتُ بأنْ يكونَ أمالَهُ            غيري وَطَبْعُ الغُصْنِ أن يَتَمَيّلا

          وأظُنّهُ طَلَبَ الجَديدَ وَطالَمَا              عَتَقَ القَميصُ على امرىءٍ فتبدّلا

ثم نرى قميصَ الحبيبِ صَـارَ مَـلـفـتَ الشعراءِ، ومَحطَّ أنظارِهِم، فأخذوا يتناولونه بالوصف، إذ يُساهمُ في إضفاءِ البهاءِ والنضارِ على الحبيبِ؛ قال الصنوبري في وصفِ لابسة أخضر، فشبهها بِوردة الجلنار وشَبَّـه قميصها بورقه الأخضر:

                 وجارية أدبتها الشطاره           ترى الشمس من حسنها مستعاره  

            بدت في قميص لها أخضر            كما ستر الورق الجلناره

في حين نرى أبا هلال العسكري يَجعل الصباح سارقاً ضياءه من بياض قميص المحبوبة، كما أن الليالي أخذت سواد ظلمتها من خمارها؛ يَـقول:

          أغارَ على ضوء الصباحِ قَميصُها           وفازَ بألوانِ الليالي خِمَارُها

وقد يكون الحبيب عدواً في كثيرٍ من الأحيان؛ كما يُعبرُ الشاعرُ إذ جاءه عدوٌّ يُلقَّـبُ بالحبيب مُرتدياً قميصَ اللاذ، واللاذ: ثياب حرير تنسج بالصين واحدته لاذة ، وهو غيرُ خائفٍ من رقيبٍ يَشي به، فقميصُه أهدته إياه الشمسُ من لونِ الشفقِ، فهو لا يُرَى لأنَّ لونَ قميصِهِ ولونَ الخمرِ ولونَ خده قريبةٌ من بعضها؛ يقول:

           أَتاني في قميصِ اللاَّذِ يَسْعَى             عدوٌّ لي يلقَّبُ بالحبيبِ

           فقلتُ من التعجب: كيف هذا             بِلاَ واشٍ أَتيتَ وَلاَ رقيبِ

          فقال: الشمسُ أَهدتْ لي قميصاً            غريبَ اللَّوْنِ من شَفَقِ الغُرُوبِ

          فَثَوْبي والمُدَامُ ولونُ خَدِّي                 قريبٌ مِنْ قريبٍ مِنْ قَرِيبِ!

في حين أحسَّ شاعرٌ آخر باستغاثة قميصِ إحداهنَّ وقد أوشكَ على الغرقِ بالعطر، عندما تغمس بهِ؛ يقول:

                    تُغَمِّسُ في العبيرِ قَميــ           ـصَها حتى شَكا الغرقَـا

وكثيراً ما يُقابلُ الشاعرُ بينَ رقةِ البشرةِ والقميصِ، فحينما أرادت إحداهن الاغتسالَ وخلعَت قميصَها، لوَّنَ الحَياءُ وجهَها بالاحمرار، إذ لمْ تُبقِ عَـليها سِوى ثَـوبٍ أرقَّ مِنَ الهواءِ، وعندما انتهت، ورأت عيونَ رقيبٍ تُـلاحقُـها، أخذَتْ رداءَهَـا وأسبلتْهُ عليها، فَلشدَّةِ بياضِ جَسدِهَا صَـارت وكأنها أسبلَتْ ثوبَ الظلامٍ على الضياءِ، فَغـابَ بياضُ الصباحِ تحتَ سوادِ الليلِ، وظَلَّ جسدها يقطرُ ماءً على الماءِ؛ يقول ابن المعتز:

          نضَتْ عنها القميصَ لصَبّ ماءٍ             فوَرّدَ وجهَها فرطُ الحياءِ

          وقابلتِ النسيمَ وقد تعرّت،                    بمعتدلٍ أرقّ من الهواءِ

          فَلَمّا أَن قَضَت وَطَراً وَهَمَّت                    عَلى عَجَلٍ إِلى أَخذِ الرِداءِ

          رَأَت شَخصَ الرَقيبِ عَلى التَداني                فَأَسبَلَتِ الظَلامَ عَلى الضِياءِ

          فَغابَ الصُبحُ مِنها تَحتَ لَيلٍ             وَظَلَّ الماءُ يَقطُرُ فَوقَ ماءِ

          فَسُبحانَ الإِلَهِ وَقَد بَراها                    كَأَحسَنِ ما يَكونُ مِنَ النِساءِ

 

وربما أمسكَ القميصُ جَسدها لشدة رقتهِ ونعومتِهِ، فهي تجري في القلبِ، كما يسيل الماءُ في مجراه؛ يقولُ الشاعرُ:

           قد حاز قلبي فصار يملكه               فكيف أسلو وكيف أتركه

           رطيب جسم كالماء تحسبه             يخطر في القلب منه مسلكه

          يكاد يجري من القميص من           النَّـعمَةِ لولا القميص يمسكه

وربما اتسعَ القميصُ ليلبسه الظلامُ كله، فلو رأيتَ الشاعر ومحبوبته معاً وقد تغطيا بِقميص الظلام، لحسبتَ أنهما جَسدٌ واحدٌ؛ يقولُ ابنُ المُعتز:

         فلو تَرانا في قميصِ الدُّجى          حَسبتنا في جَسَدٍ واحدِ

وطالما كان القميصُ موضعَ شكٍّ واتهامٍ إذا ما لبسه الحبيبُ، ومثيرَ الغيرةِ في قلب المُحبِّ؛ يقولُ خالد الكاتب:

أما ترثي لِمُكتئبٍ               يُحبكِ لحمه ودمه

يَـغارُ على قميصكِ حــ            ينَ تلبسه ويتهمه

        فللقميصِ إذاً مكانةٌ كبيرةٌ في شعر الغزل، فقد رافق الشعراءَ في حالةِ عشقهم، وساهم إسهاماً كبيراً في إظهار جمال المحبوبةِ في مواقفَ كثيرةٍ.

1
$ 0.00
Avatar for MaherHabieb
3 years ago

Comments