طالما يصادف الباحث أقوالا لبعض المستشرقين، تشكك في أصالة الدراسة الصوتية العربية، وتجعلها نتيجة لتأثر العرب بغيرهم من الأمم.
من ذلك -مثلا- ما نجده في كتاب (تاريخ الفلسفة في الإسلام) للمستشرق ت. ج. دي بور حيث يذكر أنَّ الخليل بن أحمد كان صديقا لابن المقفّع، الذي يسَّر للعرب الإطلاع علىكلِّ ما كان في اللغة الفهلوية من أبحاث لغوية ومنطقية.
وقد نجد أقوالا تذهب إلى ما هو أغرب من ذلك بكثير، فتجعل من النشاط العلمي في القرن الأوّل الهجري لمركزي الكوفة والبصرة، نتيجة لوضع الأعاجم (وليس العرب) للعلوم.
فأكثر الواضعين للعلوم العربية كانوا أعاجم!! وحتى معجم العين للخليل ألَّفه صاحبه في خراسان ((...ويتضح من هذا القاموس تأثير اليونان في علوم العرب.)).
وثمّة أقوال أكثر موضوعية من سابقتها، على الرغم من أنَّنا لا نوافقها تماما. من ذلك مثلا ما ذهب إليه غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) حيث جعل للترجمة التي قام بها السريان دورا كبيرا في الدراسة اللغوية عند العرب. فمعارف اليونان واللاتين التي نقلوها تشكَّل أساسا -برأيه- لثقافة متعلمي العرب في الدور الأوّل، ولذلك كان اليونان أساتذة العرب، الذين فُطِروا على قوَّة الإبداع، فما لبثوا أن تحرروا من هذا الدور، فأبدعوا معتمدين على التجربة التي سبقوا أوربا في استخدامها بزمن طويل.
فعلى الرغم من اعتراف الكاتب بإبداع العرب، وبسبقهم في استخدام التجربة، فإنَّنا لا نوافقه الرأي فيماذهب إليه حينما جعل دراسات اليونان واللاتين أساسا للثقافة العربية. فهذا الزعم غير دقيق -برأينا- في مجال الدراسة الصوتية، إن لم نقل في مجال الدراسة اللغوية بشكل عام.
وذلك لأنَّ الجو الثقافي العام للدراسة اللغوية، كان صوتيا ويقوم على أسس صوتية بدائية، تمثَّلت بالسماع والمشافهة سواء في رواية الشعر أم القرآن أم الحديث أم بملاحظة الخطباء، أم باستخدام اللغة الموزونة الموقَّعة...فضلا عن الدور الأساسي الذي قامت به القراءات القرآنية من توجيه الانتباه إلى الاختلافات (الصوتية في معظمها) بين تلك القراءات.
على أنَّنا لا نغفل عن دور تجويد القرآن الكريم في نشأة الدراسة الصوتية عند العرب، حيث يكون القارىء مضطرا إلى إخراج الحروف من مخارجها، وإلى مراعاة أحكام قراءته من إشمام أو اختلاس أو رَوم... لتأتي محاولة أبي الأسود الدؤلي في ضبط اللغة من صلب هذا المناخ الثقافي، فاتخذ طريقة في ضبطها تقوم على أساس صو تي.
كلُّ تلك الأسباب إضافة إلى أسباب أخرى سنأتي على ذكرها لاحقا، تجعلنا نميل إلى أنَّ الدراسة الصوتية عند العرب، كانت نتيجة ابتكار وإبداع، وبخاصة إذا كانت نشأتها على يد رجل كالخليل بن أحمد الذي بيَّنا فيما سبق بعض جوانب شخصيته.
وذلك الإبداع يقوم على أساس عربي كما رأينا، يمثِّل القرآن الكريم وقراءاته أحد أبرز أركان ذلك الأساس...وليس على أساس يوناني أو غير يوناني.
ولكن وعلى الرغم من ذلك نقول: ربما كان للتأثر دور في نشأة الدراسة الصوتية العربية، إلاَّ أنَّ ذلك الدور يصعُبُ إثباته كما يصعُبُ إنكاره، وهو مع ذلك ضعيف جدا، قد لا يتعدَّى السماع بوجود دراسة صوتية عند الأمم السابقة للعرب.
وأما ما جاء به المستشرقان (دي بور، وبارتولد) فليس إلاَّ زعْما، كان التعصّب على العرب دافعا أساسيا له. إذ لا دليل على صحة القول بصداقة ابن المقفّع (ت 142هـ) والخليل (ت 175هـ) فيما بين أيدينا من مصادر ترجمت لهما إلاَّ ما وُجِدَ في طبقات النحويين واللغويين: من أنَّ بعض أصحاب الخليل قد هيَّؤوا له لقاء مع ابن المقفّع ))فتذاكرا ليلة تامة فلمَّا افترقا؛ سُئِل ابن المقفّع عن الخليل فقال: رأيت رجلا عقله أكثر من
علمه، وقِيلَ للخليل كيف رأيت ابن المقفّع؟ فقال: رأيت رجلا علمه أكثر من عقله((.
فهذا اللقاء المُدبَّر لا يدلُّ على صداقة بينهما، فضلا عن أنَّ السؤال الذي وُجِهَ إليهما، وكيفية إجابتهما عليه، لا يدلُّ على سابق لقاء بينهما.
ثم إنَّ الناظر في موضوعات ترجمات ابن المقفّع التي وصلت إلينا، يُدرك أنَّها بعيدة كل البعد عن الدراسة اللغوية أو الصوتية التي تكاد تكون تخصصية. فأغلبها يتصل بالديانات وبالأخلاق وبالآداب...وغير ذلك من الموضوعات التي تتصل بشخصية ابن المقفّع كما عُرِفَ عنه، وتتصل أيضا بطبيعة الحياة الاجتماعية الجديدة الناتجة عن تفاعل تقاليد الإسلام وتعاليمه، وبعادات وتعاليم الديانات عند الشعوب الداخلة فيه أفواجا، وبخاصة إذا ما تذكّرنا أنَّ ابن المقفّع فارسي الأصل واتُهِمَ بالذندقة.
والأمر ذاته بالنسبة إلى الرأي الذي ينسب الإبداع إلى الأعاجم، ويرى أنَّهم الواضعون للعلوم العربية دون العرب.
فمن الواضح أنَّ هذا القول لا يثبت أمام الدقّة العلميَّة؛ إذ مَنْ يشك في عروبة أبي الأسود الدؤلي، أو في عروبة الخليل بن أحمد الفراهيدي، أو غيرهما من روَّاد الدراسة اللغوية العربية. ولا نجد تسويغا لهذا الزعم سوى التعصّب على العرب، ومحاولة تجريدهم من الإبداع والابتكار لهذه الدراسة، التي نكاد نجزم بأصلها العربي.
ويُذكَر هنا أنَّ د. أحمد مختار عمر الذي درس قضية التأثر والتأثير بمزيد من
التفصيل، ومال إلى احتمال وجود تأثير هندي على الخليل لا يتجاوز الترتيب الصوتي، لأنَّه وجد أنَّ هناك خلافا كبيرا في التطبيق بينهما.
إلاَّ أنَّنا نقلل كثيرا من وجود هذا الاحتمال سواء بالهنود، أم باليونان أم بالرومان أم بالعبرانيين. على الرغم من وجود العلاقات الكييرة بين هذه الشعوب، وبين المناطق العربية قبل الإسلام وربما بعده.
وذلك يعود إلى أسباب عامة تتصل بطبيعة تلك الشعوب وطبيعة العلاقات معها، ويعود أيضا إل أسباب خاصة بالدراسات الصوتية عندهم واختلافها عن دراسة العرب. فأما
الأسباب العامة فنجملها فيمايلي:
1- أنَّ مجمل تلك العلاقات يعود إلى علاقات تجارية أو حروب أو غزوات، وفي هذين النوعين من العلاقات لا يكون التأثّر في مثل دراسات تخصصية كهذه الدراسات؛ وإنِّما يبدو التأثّر في العلاقات التجارية ببعض الألفاظ كما يحصل في أغلب الأحيان وذلك لأنَّ التجارة لا تحتاج إلى أكثر من التفاهم بين التجار. ويُذكَر هنا أنَّ أحد الباحثين وجد أنَّ تأثَّر الجانب الهندي في اللغة العربية كان باقتباس كلمات تتعلَّق بالمواد التجارية التي تخصُّ الهند مثل الفلفل والصندل...
2- لقد كان العرب مؤثِّرين أكثر من كونهم متأثِّرين، وذلك لأنَّهم أصحاب الدعوة الجديدة المؤثّرة، والتي اشتدَّ إقبال الموالي من السند على علومها وآدابها ونبغوا فيها، ومنهم مَنْ أسهم في الحركة العلميّة في بغداد، فنقل علومهم الرياضية والطبيعية ، ولكن يُلاحَظ أنَّ معظم الوافدين إلى بغداد توفوا بعد القرن الرابع مما يعني عدم معاصرتهم لبداية الدراسة الصوتية العربية.
وثمّة دليل آخر يدلُّ على الصبغة الإسلامية للحركة العلميّة العربية، وهو أنَّ القصائد الهندوسية الحماسية لم تترجم بسبب طابعها الوثني.
3- أنَّ الصفات التي جاءت في بعض مصنفات القدماء التي تعرضت لثقافة الهنود وعاداتهم، تأتي على ذكر صفات تدلُّ بشكل أو بآخر على ضعف إمكانية تأثّر العرب بهم. من ذلك مثلا ما نجده في كتاب ))في تحقيق ما للهند من مقولة(( للبيروني في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس؛ أي بعد فترة طويلة من التفاعل الحضاري.
فقد يدلُّ اختيار البيروني للكتابة في هذا الموضوع؛ على نتائج احتكاك بين الثقافتين. وهي لم تأتِ من فراغ وإنِّما نتيجة تجربة وملاحظة، ربما لم تثمر إلاَّ في هذا الوقت.
وعلى ذلك فنحن لانأخذها من حيث مطلق صحتها، وإنِّما من فكرة وجودها التي تدلُّ على معاناة -إن صحَّ التعبير- في الاطلاع على علومهم.
فمن تلك الصفات مثلا مايذكره من إعجابهم بأنفسهم، وأنَّ في طباعهم ))الضّن بما يعرفونه والإفراط في الصيانة له من غير أهله منهم فكيف من غيرهم...((.
وقارن البيروني بينهم وبين اليونان قائلا :
))وأقول إنَّ اليونانيين أيام الجاهلية قبل ظهور النصرانية كانوا على مثل ما عليه الهند من العقيدة...((.
4- ما نلاحظه في تعبير البيروني عند العرض لعلومهم وكتبهم، من دلالة على أنَّ الخوض فيها أمر محدث، فمن ذلك ما يذكره عند حديثه عن علم اللغة:
))...ولسنا بمهتدين لشيء منه فإنِّه فرع أصل قد عدمناه أعني نفس اللغة..((.أو كقوله:
))...وفي حروفهم ما يسمّى أيضا طويلة ووزانها وزان الثقيلة، وأظنّها التي تعتلُّ سواكنها وإن كنت إلى الآن لم أستيقن حال الخفيف والثقيل بحيث أتمكَّن من تمثيلها في العربية...وإنِّما أتشكك في الأمر...((.
فنحن نلاحظ إدراك البيروني لعدم اهتدائه إلى علم اللغة عندهم، لأنَّ ما وصل إليه إنِّما هو فرع فُقِدَ أصله. وكما نلاحظ عبارات وكلمات من مثل:... أظنها...إلى الآن لم أستيقن...وإنِّما أتشكك...
فإذا كان البيروني في نهاية القرن الرابع لم يستيقن أقسام الأصوات في اللغة الهندية...ومازال يتشكك...ويظنُّ...فهل يُعقَل أن تقوم العامة التي تعمل بالتجارة بدور نقلها؟!.
فهذه الأسباب المتعلَّقة بظروف ثقافية- اجتماعية عامة بمجملها تدلُّ بوضوح على التقليل من احتمال تأثّر العرب بغيرهم من هنود ويونانيين.
وثمّة أسباب خاصة تتعلّق بطبيعة الدراسة الصوتية عند كلا الفريقين، وتقلل بدورها من هذا الاحتمال. منها ما يتمثّل بخلافات بين دراسة الهنود ودراسة العرب،
وأهمها:
1- الاختلاف الكبير بين ترتيب العرب للأصوات وترتيب الهنود، وهذا الاختلاف ناتج عن طبيعة اللغتين كما أشار البيروني سابقا.
2- توصلهم إلى دور الوترين الصوتيين في إحداث الجهر والهمس، في حين اعتمد العرب طريقة أخرى وفي هذا دليل على اختلاف منهج الدراسة.
3- كانت لدراسة المقطع أهميّة كبيرة عند الهنود في حين لم يتعرّض العرب إليه حتى فترة متأخرة واهتدوا إليه باستخدام منهج آخر.
4- تميّزت دراسة الهنود بالاهتمام بالنبر، وعلاقته بأصوات العلة. في حين لا نجد ذلك عند العرب بدرجة الاهتمام نفسها.
5- اعتماد مقاييس زمنية محددة...وهذا ما لا نجده عند العرب.
6- كانت دراسة الهنود الصوتية مستقلِّة، في حين ارتبطت عند العرب بغيرها حتى القرن الرابع الهجري حيث درسها ابن جني بشكل مستقل. وأشار البيروني إلى ذلك حينما ذكر أنَّ المُقدَّم من علومهم على بقية الفروع، إنِّما هو علم اللغة.
وهذه الاختلافات موجودة بين دراسة العرب للأصوات ودراسة اليونان أيضا،وفي ذلك دلالة على عدم صحة ما ذهب إليه كل من غوستاف لوبون، وبارتولد...حيث ذهبا إلى وجود تأثّر يوناني في الدراسة العربية. أو أنَّ اليونانيين كانوا أساتذة العرب. ومن أهم هذه الاختلافات:
1- اختلاف المنهج المُتبع عندهما؛ ففي حين اعتمد اليونان على ملاحظة الآثار السمعية، لم يعتمد العرب -إلاَّ ما ندر- سوى على التجربة الذاتية والمتمثِّلة بذوق الحروف.
2- تعرض اليونانيين لدراسة المقطع ودور النبر في حين رأينا أنَّ اللغويين العرب الآوائل لم يأتوا على ذكرهما.
3- اختلاف الآراء في تطبيق الأصوات عند اليونانيين فسقراط وأفلاطون أنكرا وجود علاقة طبيعية بين اللفظ ومدلوله بينما نجد أنَّ الخليل ومعظم اللغويين العرب الأوائل أخذوا بهذا الرأي دون خلاف.
فهذه الأسباب العامة وهذه الاختلافات بين الدراسة الصوتية العربية وكل من اليونانية والهندية، تدفعنا إلى التقليل من احتمال تأثّر العرب. ذلك الاحتمال الذي رجّح د.أحمد مختار عمر وجوده. وبخاصة أنَّنا نرى أسبابا أخرى تجعلنا نميل إلى فكرة ابتكار الدراسة الصوتية عند العرب وإبداعها وأهم هذه الأسباب:
1- شخصية الخليل التي نسيطيع تلمَّس بعض جوانبها من خلال الروايات التي وصلتنا عنه ومعرفته بالنغم واللحون.
2- الجو اللغوي والفكري العام كان صوتيا بكل جوانبه من المشافهة إلى ملاحظة اللغة المنطوقة ومحاربة اللحن...إلى تلقين القرآن مع ملاحظة اختلافات قراءته...
3- اعتماد التجربة في البحث -وبخاصة عند المعتزلة- وهذا ما أشار إليه غوستاف لوبون. كما أنَّ هذا لايبتعد كثيرا عن الروايات التي تشير إلى كثرة محاولات الخليل لمعرفة مخارج الحروف، وحتى سيبويه والمبرد...وما هذه المحاولات سوى تجربة ذاتية.
4- عدم ذكر أحد ممن قدح في كتاب العين إلى أنَّ الخليل اقتبس عن الهنودفي مجال الأصوات أو حتى عن غيرهم. على أنَّنا نودُّ التنبيه إلى أنَّ أشهر الروايات تشير إلى قدوم معجم العين سنة 248 هـ إلى البصرة وفي هذه الفترة قد يكون اللغويون اطلعوا قليلا على اليونانيين والهنود، كما نلمح من خلال بعض المؤلَّفات في تلك الفترة، من مثل ما نجد في البييان والتبيين للجاحظ (ت 255 هـ) حيث ذكر في أكثر من موضع أرسطو طاليس والهنود كقوله مثلا: ))...ويؤكِّد ذلك قول صاحب المنطق..((. وكقوله أيضا: ))وتقول
الهند لولا أنَّ الفيل مقلوب اللسان لكان أنطق..((. وفي هذا دليل على عدم اطلاع اللغويين العرب القدماء (في القرنين الأول والثاني للهجرة) على الدراسة الصوتية المعمَّقة، إذ لو كانوا مطّلعين بشكل أكثر من ذلك لذكر لنا الجاحظ (أو أي كاتب عربي آخر) -وهو في مقام حديث عن النطق- بعضا منها.
في حين نرى البيروني في نهاية القرن الرابع يفصِّل في دراساتهم الصوتية ويقارنها بدراسة العرب قائلا:
))وهم يصوِّرون في تعديد الحروف شبه ما صوَّره الخليل بن أحمد والعروضيون ...((. ويتابع مفصِّلا دراستهم الصوتية والعروضية، وذاكرا أنواع أوزانهم، وأسماءها، وصورة رموزها..إلى أن يقول:
))وإنِّما طولَّت في الحكاية...ليُشاهد اجتماع الخفاف فيُعلَم أنَّها متحركات لا سواكن وليُحاط بكيفية قوالبهم، وتقطيع أبياتهم، وليُعرف أنَّ الخليل بن أحمد كان موفَّقا في الاقتضابات، وإن كان ممكنا أنْ يكون سمع أنَّ للهند موازين في الأشعار كما ظنَّ به الناس..((.
ولكلام البيروني السابق أهميّة إذ يُظهر بوضوح أنَّ القدماء ظنّوا باحتمال تأثّر الخليل بالهند وهم أقرب زمنا إليه، فلو استطاعوا إثبات ذلك لذكروه، وبخاصة أولئك الذين قدحوا في كتاب العين.
على أنَّنا نودُّ التنيه إلى أنَّ هناك فرقا كبيرا بين ما نقله الجاحظ عن الهنود أو عن اليونان، وبين ما جاء به البيروني؛ فالجاحظ جاء بمعارف عامة أي يمكن للعامة نقلها، في حين أنَّ ما جاء به البيروني إنِّما هو دراسة تخصصية مفصَّلة، وفي هذا دليل على أنَّ ترجمة تلك الدراسات لم يتم قبل القرن الثالث أو الرابع.
5- أنَّ المناخ الفكري والجو الصوتي الذي أحاط بالخليل في أثناء ترتيبه الأصوات ترتيبا صوتيا، قد أثمر طريقة صوتية في منهج بعض المؤلَّفات في ذلك الحين واستمرَّ بعد ذلك، كما رأينا عند قطرب (ت 206 هـ) في مثلّثاته. ومثل ما نجد عند السجستاني (ت255 هـ) الذي ألَّف كتابا في غريب القرآن، ورتَّب فيه الألفاظ وفق حركة الحرف الأوّل: فبدأ بالمفتوح ثم بالمضموم ثم بالمكسور. ونجد الفكرة ذاتها بعد ذلك عند الفارابي (ت 339 هـ) في كتابه ديوان الأدب.
6- اتباع معظم أصحاب المعاجم بعد الخليل ، وبعض النحويين والقرَّاء، الترتيب الأبجدي السرياني الأصل أو الترتيب الألفبائي (أ ب ت ث ...) لأنَّه -برأي بعضهم- الأشهر والأقرب، في حين بقي ترتيب الخليل الصوتي بعيدا بعض الشيء عن اللغويين والنحويين؛ مما قد يوحي بجدة ابتكاره، وإلاَّ كان لاقى الشهرة ذاتها التي لاقتها الترتيبات السابقة.
7- ثمَّة سبب آخر يدلُّ على حداثة طرية الخليل، وأنَّ هذه الدراسة التي جاء بها كانت ما تزال موضع مناقشة وجدل بين الدارسين والباحثين وبخاصة تلاميذ الخليل.
إذ من المعروف أنَّ أبا عمر الشيباني ألَّف معجما أطلق عليه اسم الجيم، وعلى أرجح الآراء -كما يذكر محقق الكتاب- أنَّه اختار هذا الاسم بسبب تميَّز حرف الجيم بصفات أبرزها أنَّه حرف مجهور )) ويجمع مع خمسة غيره إلى الجهر الشدة ثم هو ينماز بأنَّ معه ذلك الاحتراز بالمبالغة في جهره حتى لا يلتبس أو يمتزج بغيره...((. ثم يجد أنَّ أبا عمرو الشيباني اختار تسمية الجيم لما يمتاز به هذا الصوت من صفات تجعله رأسا للحروف اعتمادا على ترتيب المخارج.
فإذا صحَّ هذا التفسير تكون دراسة الخليل الصوتية، ما زالت في مجال المناقشة بين تلاميذ الخليل الذين لاحظوا ما نُسِبَ إلى كتاب شيخهم من خطل وخلل، فحاولوا اتباع طريقة مختلفة عن طريقة مخارج الحروف، وهي في الوقت نفسه ليست بعيدة عن ملاحظات شيخهم الصوتية.
فهذه الأسباب مجتمعة إضافة إلى ما ذكرناه سابقا من الأسباب سواء العامة منها أم الخاصة بالاختلافات الصوتية، كل ذلك يجعلنا نميل إلى فكرة ابتكار العرب للدراسة الصوتية، إلاَّ أنَّنا لا نقول بالحكم الجازم أنَّها عربية خالصة.
ولكن على الرغم من كل ما ذكرناه سابقا قد نجد احتمالا ولو بسيطا جدا لتأثّر العرب بغيرهم، إلاَّ أنَّ هذا الاحتمال -كما ذكرنا سابقا- صعب الإثبات، وصعب الإنكار في آن معا. ولكن مما يوحي بوجوده:
1- وجود تأثير سرياني بطريقة النقط[ مما قد يوحي بتأثير في مجال آخر يصعب إثباته اعتمادا على ما بين أيدينا اليوم من دلائل.
2- توصل الفرس ومنذ القرن السابع قبل الميلاد إلى ما أسماه مونين التقطيع الثاني أي معرفة الحروف الصحيحة وحروف العلة، ومن المعروف أنَّ علاقة الفرس بالعرب قوية جدا الأمر الذي يجعل احتمال تأثيرهم قوّيا.
3- اهتمام الشعوب في المناطق التي فتحها العرب وقبل مجيئهم بزمن طويل بالأصوات، كما تشير المكتشفات الأثرية، فمثلا يذكر المستشرق Lambert وجود لوحة صومرية تُعبِّرُ عن تمرين صوتي ، والعرب بعد الفتوح الإسلامية سكنوا في مناطق الصومريين، ولكن لا دليل يثبت فعلا أنَّهم اطلعوا على أبحاثهم الصوتية.
4- التشابه الغريب بين قصص نشأة النحو العربي، وقصص نشأة النحو الهندي، على الرغم من أنَّ هذه القصص يمكن للعامة نقلها وحتى بعد فترة زمنية طويلة.
د. مَاهر عيسى حَبيب
مبدع دكتور